فصل: قال دروزة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال المظهري:

سورة الناس مدنيّة.
وهى ست آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ} يا محمد {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} خالقهم ومربيهم ومصلح أمورهم.
{مَلِكِ النَّاسِ} مالكهم ومدبر أمورهم.
{إِلهِ النَّاس}
معبودهم هما عطف بيان لرب الناس فان المربى قد يطلق على الوالد ورب الدار ويطلق على المالك وهو لا يكون ملكا ولا معبودا والملك قد يطلق على السلطان وهو لا يكون معبودا مستحقا للعبادة واللام في الناس للعهد والمراد به النبي صلى اللّه عليه واله وسلم واتباعه وتخصيصهم بالذكر مع كونه تعالى ربا وملكا والها بكل شيء لاظهار شرفهم ولان المقصود بانزال السورتين دفع شر السحر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن اتباعه لأن من حق الرب والملك والا له حفظ المربوب والمملوك والعائد عن الشر قال غوث الثقلين أيدركني صنم وأنت ظهرى أأظلم في الدنيا وأنت نصيرى فعار على حامى الحمى وهو قادر إذا أضاع في البيداء عقال بعيري والكفار وان كانوا مربوبين مملوكين لكن لعدم اعترافهم به غير مستحقين للحماية ولدا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يوم الأحزاب اللّه مولانا ولا مولا لكم وتكرير الناس بالإظهار من غير إضمار لأن عطف البيان موضوع للبيان وفى الإظهار زيادة البيان وللاشعار بشرف النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه وقال البيضاوي ولما كانت الاستعاذة في السورة المتقدمة من المضار البدنية وهى تعم الإنسان وغيره والاستعاذة في هذه السورة من الإضرار اللتي تعرض النفوس البشرية وتخصها عمم الإضافة ثمه وخصصها بالناس هاهنا فكانه قال أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك أمورهم ويستحق عبادتهم وقيل وجه التكرير لفظ الناس ان المراد بالناس الأول الأطفال ومعنى الربوبية يدل عليه وبالثاني الشاب المجاهدين في سبيل اللّه ولفظ الملك المنبئ عن السياسة يدل عليه وبالثالث الشيوخ المنقطعين إلى اللّه تعالى ولفظ الإله المنبئ عن العبادة يدل عليه وبالرابع الصالحون إذا الشيطان حريص على عداوتهم وبالخامس المفسدون لعطفه على معوذ منه وفى ذكر أطفال المؤمنين والرجال الصالحين استجلاب للرحمة واستدفاع للعذاب قال رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم: «لولا رجال ركع وأطفال وضع وبهائم رتع نصب عليكم صبا» رواه أبو يعلى والبزار والبيهقي من حديث أبى هريرة وله شاهد مرسل أخرجه أبو نعيم عن الزهري وقال اللّه تعالى: {ولولا رجال مومنون ونساء مومنات لم تعلموهم} الآية قال البيضاوي في هذا النظم دلالة على انه تعالى حقيق بالاعادة قادر عليها غير ممنوع عنها واشعار على مراتب الناظر في العارف فانه يعلم اولا بما يرى عليه من النعم الظاهرة والباطنة ان لم ربا ثم بعد النظر يتحقق انه غنى عن الكل ذوات كل شى ملكه ومصارف أمورهم منه فهو الملك الحق ثم يستدل على انه هو المستحق للعبادة.
مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الوسواس اسم بمعنى الوسوسة وهو الصوت الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع كالزلزال والمراد هاهنا الموسوس يعنى الشيطان على طريقه المبالغة أو بتقدير المضاف أي ذى الوسواس كذا قال الزجاج الْخَنَّاسِ صفة للوسواس يعنى الشيطان لأن عادته ان يخنس أي يتاخر عند ذكر اللّه تعالى عن عبد اللّه بن شقيق قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما من آدمي الا بقلبه بيتان في أحدهما الملك وفى الاخر الشيطان فإذا ذكر اللّه خنس وإذا لم يذكر اللّه وضع الشيطان منقاره في قلبه ووسوس له رواه أبو يعلى وروى أبو يعلى عن أنس عنه صلى اللّه تعالى عليه واله وسلم نحوه.
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ إذا لم يذكر اللّه والموصول في محل الجر على انه صفة بعد صفة للوسواس وجاز ان يكون منصوبا على الذم أو مرفوعا على انه خبر لمبتداء محذوف أي هو.
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}
بيان للوسواس أو الذي فالوسوسة فعل من الجنة والناس جميعا قال اللّه تعالى وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الانس والجن الآية امر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه واله وسلم ان يستعيذ من شر الجن والانس جميعا فان قيل الناس لا يوسوسون في صدور الناس انما هي فعل بالجن قلنا الناس أيضا يوسوسون بمعنى يليق بهم يقولون أقوالا يرتكز في صدور الناس منها الوسوسة أو هو متعلق بيوسوس أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة والناس وقال الكلبي هو بيان للناس من قوله في صدور الناس وأراد بالناس هناك ما يعم القبيلتين سمى الجن ناسا كما سموا رجالا في قوله تعالى وانه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن قال البغوي فقد ذكر من بعض العرب انه قال وهو يحدث جاء قوم من الجن فوقفوا ففيل من أنتم فقالوا أناس من الجن وهذا معنى قول الفراء وجاز ان يكون من الجنة بيانا للوسواس ويكون الناس هاهنا معطوفا على الوسواس والمعنى أعوذ برب الناس من شر الشيطان الموسوس من الجنة ومن شر الناس عن عقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الم تر آيات أنزلت الليلة لم تر مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس رواه مسلم ورواه أحمد بلفظ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الا أعلمك سورا ما انزل في التورية ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في القرآن بمثلها قلت بلى قال قل هو اللّه أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس وعن عائشة ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو اللّه أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على راسه ووجهه وما اقبل من جسده يفعل ذلك ثلث مرات متفق عليه وعن عقبة بن عامر بينا انا أسير مع رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم بين الجحفة والأبواء إذ غشينا ريح وظلمة شديده فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يتعوذ بأعوذ برب الفلق وأعوذ برب الناس ويقول يا عقبة تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما رواه أبو داود وعن عبد اللّه بن خبيب: قال خرجنا في ليلة مطيرة وظلمة شديدة نطلب رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ما دركناه فقال قل قلت ما أقول قال: «قل هو اللّه أحد والمعوذتين حين تصبح وحين تمسى ثلث مرات يكفيك من كل شيء». رواه الترمذي وأبو داود والنسائي.
وعن عائشة ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال: «إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وامسح عنه بيده رجاء بركتها» رواه البغوي. اهـ.

.قال دروزة:

سورة الناس:
في السورة تعليم بالاستعاذة من وسوسة الموسوسين وشرهم إنسا كانوا أم جنا. وبعض الروايات تذكر أنها مكية وبعضها تذكر أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكها في سلك السور المكية المبكرة في النزول. وأسلوبها يسوغ ترجيح مكيتها وتبكير نزولها. ولقد أوردنا الأحاديث النبوية التي تذكر تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السور وأمره بذلك ونوهنا بما في ذلك من حكمة في مطلع تفسير السورة السابقة فنكتفي بهذه الإشارة.
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الناس: الآيات 1- 6]
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}
(1) الوسوسة: الإيحاء والتلقين والإغراء والإغواء والصوت الخفي الهامس.
(2) {الخناس}: الذي يأتي ويعود ويختفي ويتربص.
(3) {الجنة} مرادفة لكلمة الجن ومعناها في الأصل الخفي المستتر غير الظاهر.
في آيات السورة أمر رباني موجه للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة باللّه من وسوسة الإنس والجن وإغرائهم وإغوائهم.
وهي مثل سابقتها في معرض تعليم المسلمين الاستعاذة باللّه وحده ونبذ ما سواه من كل وسوسة ظاهرة وخفية من جن وإنس.
والمتبادر أن المقصود من وسوسة الإنس هو ما يحاوله ويقوم به ذوو الأخلاق السيئة والسرائر الفاسدة من إغراء وإغواء وإيحاء وتلقين بالشرور والمنكرات والبغي وإقامة العثرات في سبيل الخير والصلاح والحق والبر.
أما وسوسة الجنة فالمقصود منها كما هو المتبادر أيضا وسوسة تلك العناصر الخفية التي توسوس في صدور الناس وتغريهم بالشر والفساد والمنكرات والبغي والكفر وعبادة غير اللّه وجحود نعمته. وتزينه لهم وتمنعهم عن الإيمان والخير والمعروف والبر، والتي سماها القرآن بأسماء إبليس وجنوده وذريته وقبيله والشيطان والشياطين، مما هو مستفيض في فصول القرآن المكية والمدنية استفاضة تغني عن التمثيل.
وروح الآيات تلهم أن السامعين يعرفون ما يفعله الوسواس الخناس من الجنة والناس.
وقد تضمنت السورة أهدافا جليلة وتلقينات بليغة. فالوساوس سواء أكانت تلك التي تأتي من أعماق النفس وعناصر الشر الخفية أم تلك التي تأتي عن طريق وألسنة الشر وأعوان السوء من البشر من شأنها أن تثير مختلف الهواجس ونوازع الشر والإثم، وتسبب نتائج خطيرة في علاقات الناس ببعضهم، وتزلزل فكرة الخير والمعروف والثقة والتضامن والسكينة والطمأنينة فيهم. فالأمر بالاستعاذة باللّه منها ومن شر مسببيها يتضمن التحذير والتنبيه والتنديد من جهة، والدعوة إلى الازورار عن الموسوسين ونبذهم من جهة، وتلقين تغليب نوازع الخير وإقامة الناس علاقاتهم فيما بينهم على أساس الروح الطيبة والنية الحسنة وحسن الظن والتواثق من جهة، وعدم الاستسلام لسوء الظن الذي تثيره الوساوس وعدم الإصغاء إلى كل كلمة يقولها المرجفون والدساسون وكل خبر يذيعونه وعدم الاندماج فيما ينصبونه من مكايد ويحيكونه من مؤامرات من جهة.
وبعض الروايات تذكر أنها نزلت مع سورة الفلق في مناسبة حادث سحر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة. وقد علقنا على هذا الحادث في سياق السورة السابقة. ولا تبدو صلة ظاهرة بين هذه السورة وبين الحادث المذكور. بل إن روايات نزول السورتين متتابعتين وفي ظرف وأحد تبعد السورتين معا عن ذلك الحادث. ومعظم روايات ترتيب السور تسلك هذه السورة كما تسلك السورة السابقة في سلك السور المكية المبكرة في النزول. وروح السورة وأسلوبها يجعلان النفس مطمئنة إلى ذلك ولاسيما أن مضمونها عام شامل، وفيها صورة لما كان يجري بين الكفار إزاء الدعوة النبوية حيث كان زعماؤهم يبثون الدعاية والوساوس ضدها ويكيدون لها ويتآمرون عليها ليلا ونهارا على ما حكته آيات قرآنية مكية عديدة أوردنا أمثلة منها في المناسبات السابقة. هذا إلى ما ذكرته آيات كثيرة مكية ومدنية من وساوس الشيطان وإبليس اللذين عنتهما كلمة (الجنة) في السورة على الأرجح ونزغاتهما وإغراءاتهما للكفار وتزيينهما لهم مواقف الجحود والعناد والبغي مثل ما جاء في آية سورة فصلت هذه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} وآية سورة ص هذه: {قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)}.
وآية سورة فاطر هذه: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)} ومثل آية سورة العنكبوت هذه: {وَعادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)} وآيات سورة المؤمنون هذه: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}. وآية سورة الكهف هذه:
{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}.
تعليق على موضوع الجن:
وبمناسبة ورود كلمة {الْجِنَّةِ} لأول مرة نقول: إن هذه الكلمة وبعض متشابهاتها وتفرعاتها اللفظية مثل جن وجنين تنطوي على معنى الاستتار والخفاء في اللغة العربية. وهذا يسوغ القول إن معنى الخفي والمستور وغير المرئي بالنسبة إلى الجن والجنة مما كان مستقرا ومفهوما في أذهان العرب قبل الإسلام. ولعل مما يصح قوله أن إطلاق التسمية مقتبس من المعنى اللغوي الذي يمكن أن تكون صيغته الفصحى متطورة عن جذر قديم أطلق على العناصر الخفية الشريرة التي كان الاعتقاد بوجودها طورا بشريا عاما مشتركا بين الأمم منذ أقدم الأزمنة ومن جملتهم العرب قبل الإسلام في مختلف أطوارهم كما هو الشأن إزاء العناصر الخفية الخيرة. ولقد كان لأهل الكتاب الذين كان العرب يتصلون بهم في جزيرتهم وخارجها عقائد متطورة فيهم فمن المحتمل كثيرا أن يكون ذلك قد تسرب إلى العرب فأدخل تطورا ما على عقائدهم فيهم أيضا.
ولقد احتوى القرآن آيات كثيرة حول الجن وماهيتهم أولا وحول عقائد العرب فيهم ثانيا.
ومجمل ما جاء عن ماهيتهم أنهم مخلوقات نارية على ما تفيده آية سورة الحجر هذه: {وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)} وآية سورة الرحمن هذه: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15)} وأنهم طوائف وطبقات على ما تفيده آية سورة الجن هذه التي تحكي أقوالهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَوَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَدًا (11)}، وأن منهم طبقة إبليس وذريته الذين يوسوسون للناس ويزينون لهم الشر والإثم والتمرد على اللّه على ما تفيده آيات سورتي ص والكهف التي أوردناها قبل قليل، وأن منهم من ينزل على الناس ويلقون إليهم ببعض الأقوال والأخبار والأفكار على ما تفيده آيات سورة الشعراء هذه: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)}
وأن منهم من كان يصعد إلى السماء ويحاول استراق السمع على ما تفيده آيات سورة الجن هذه: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا (9)} وأن منهم من كان تحت تسخير سليمان عليه السلام يعملون له ما يشاء ويقومون بأعمال أضخم من أعمال البشر على ما تفيده آيات سورة سبأ هذه: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ} [13] وآيات سورة ص هذه: {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)} وأن منهم من سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وذهبوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين به كما تفيده آيات سورة الجن هذه: {قُلْ أُوحِيَ إلى أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالوا إِنَّا سَمِعْنا قرآنا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أحدا (2)} وآيتا سورة الأحقاف هذه: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} وأنهم صائرون إلى ما هو صائر إليه الإنس من الحياة الأخروية ومنازلها جنة ونارا وكرامة وهوانا وفق أعمالهم كما تفيده آية سورة الأعراف هذه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَبِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)} وآية سورة الأحقاف هذه: {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31)} وأنهم إلى ذلك كله عناصر خفية لا يمكن رؤيتها ولا الشعور بماديتها عادة على ما تفيده آية سورة الأعراف هذه: {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)}.
أما مجمل ما جاء في القرآن عن عقائد العرب في الجن فهو أنهم كانوا يعتقدون أن بينهم وبين اللّه نسبا وصهرا على ما تفيده آية سورة الصافات هذه:
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)}
وأنهم كانوا يتجهون إليهم ويشركونهم مع اللّه في العبادة والدعاء على ما تفيده آية سورة سبأ هذه:
{قالوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} وآية سورة الأنعام هذه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} [100] وأنهم كانوا يرونهم مصدر خوف وشر ويعوذون بهم اتقاء شرهم على ما تفيده آية سورة الجن هذه: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقًا (6)} ولعل بشراكهم إياهم مع اللّه وعبادتهم لهم جاءت من هذا الخوف ومن الاعتقاد بقدرتهم على الأذى والضرر. وأنهم كانوا يخالطون الناس في عقولهم فيكون من ذلك الجنون وأعراضه على ما تفيده آية سورة المؤمنون هذه: {أَمْ يَقولونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْبِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)} وأنهم ينزلون على بعض الناس ويوحون إليهم ويوسوسون في صدور الناس على ما تفيده آية سورة التكوير هذه: {وَما هُوَ بِقول شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25)} وآية سورة الشعراء هذه: {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210)} وآية سورة الأعراف هذه: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}.
فالصورة القرآنية عن الجن سواء أكانت بما جاء عن ماهيتهم وأعمالهم أم حكاية عن عقائد العرب فيهم هي صورة مخلوقات خفية غير مرئية ولا محسوسة.
وهناك حديث عن ابن عباس جاء فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم: المادة عادة، فائقة القدرة متسلطة على البشر تثير فيهم الخوف والفزع، وتؤثر في أفكارهم وتوجههم توجيها ضارّا فاسدا باستثناء بعضهم الذين كانوا يؤمنون باللّه ويخشونه.
وهذه الصورة تتفق في بعض الخطوط مع الصورة القرآنية للملائكة وتختلف عنها في بعض، فهم سواء في الخفاء وعدم المادية والقدرة الفائقة. مفترقون من حيث كون الجن ناريين ومبعث خوف وقلق ومصدر شر وأذى، ومن حيث كون غالبيتهم موضع سخط اللّه ونقمته لشرورهم وتمردهم على اللّه، ومن حيث كون اتصالهم وتعاونهم مع ذوي النيات السيئة والأفكار الخبيثة والأخلاق المنحرفة، في حين أن الملائكة مبعث طمأنينة وسكينة ومصدر أمن وخير وعون ورجاء ومختصون من اللّه مكرمون لديه، يقومون بخدمته ويسبحون باسمه ويخضعون لأمره ويخشونه، وفي حين أن اتصالهم مع الأنبياء والرسل الذين لهم الكرامة عند اللّه.
وكما قلنا بالنسبة للملائكة نقول بالنسبة للجن إن وجودهم في نطاق قدرة اللّه وإن لم تدرك عقول الناس مداه. وإن التصديق به واجب إيماني غيبي لأن نصوص القرآن قطعية في ذلك.
وذكر الجن بالأساليب المتنوعة التي ذكروا بها في القرآن ماهية وعقائد وصورا لم يرد في كتب اليهود والنصارى المنسوبة إلى الوحي الرباني كما هو شأن الملائكة، ولذلك فإن هذا الأسلوب من خصوصيات القرآن أيضا.
ولعل ما كان من عقائد العرب في الجن وما كان من صور في أذهانهم لهم هو من حكمة هذه الخصوصية كما هو الشأن بالنسبة للملائكة أيضا. وعلى كل حال فإن مما هو جدير بالتنبيه أن القرآن وهو يذكر الجن بما يذكر ويتحدث عنهم بما يتحدث إنما يذكر ويتحدث عن مخلوقات وكائنات يعتقد العرب بها ويعترفون بوجودها بما يقارب ما جاء فيه. وهذه مسألة مهمة في صدد كل ما جاء عن الجن، لأن الكلام عما هو معروف ومعترف به هو أقوى أثرا ونفوذا كما لا يخفى.
ومما يتبادر أن ما ورد عن الجن والشياطين وإبليس من صور قرآنية بغيضة ومن حملات على الكفار في سياقها متصل بما في أذهان العرب عنهم، وبسبيل تقرير كون الانحراف عن الحق والمكابرة فيه والاستغراق في الإثم والخبائث والانصراف عن دعوة اللّه هو من تلقيناتهم ووساوسهم، ومظهرا من مظاهر الانحراف نحوهم، وبسبيل التحذير من الاندماغ بهم لما في ذلك من مهانة ومسبة.
ومن هنا يأتي الكلام قويا ملزما ولاذعا، ويقوم البرهان على أن ذلك من الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسس الدعوة الإسلامية.
وهذا ملموح أيضا على ما هو المتبادر من آيات سورتي الجن والأحقاف التي تخبر النبي صلى الله عليه وسلم باستماع الجن للقرآن، فآيات سورة الجن تفيد أن الذين استمعوا القرآن منهم ممن كانوا يعتقدون أن اللّه ولدا وصاحبة كما ترى فيها: {قُلْ أُوحِيَ إلى أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالوا إِنَّا سَمِعْنا قرآنا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أحدا (2) وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا ولدا (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقول سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)} وآيات سورة الأحقاف تفيد أن الذين استمعوا هم من المتدينين بالديانة الموسوية على ما تفيده الآيات [29- 30] التي أوردناها قبل قليل، والصورة الأولى متصلة من ناحية بعقائد العرب المشركين ومن ناحية بعقيدة النصارى حيث يلمح أن هذا وذاك ينطويان من جهة ما على قصد التدعيم للرسالة المحمدية بالإخبار بأن بعض طوائف الجن الذين يدينون بالديانة الموسوية والديانة العيسوية وبعقائد العرب والذين لهم في أذهان العرب تلك الصورة الهائلة قد آمنوا بهذه الرسالة حينما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن.
ولقد تزيد المفسرون المطولون في صدد ماهية الجن وأوردوا أقوالا متنوعة عنهم بسبيل ذلك معظمها مغرب وغير موثق. ولما كان القرآن إنما ذكر الجن في معرض التنديد والتحذير والموعظة والتدعيم والتمثيل، ثم لما كان الجن كائنات غيبية إيمانية لا يصح الكلام فيها إلّا في نطاق ما جاء عنها في القرآن أو السنة النبوية الثابتة فإن من الواجب ملاحظة ذلك الهدف من جهة والوقوف: عند الحد الذي وقف عنده القرآن من جهة أخرى فضلا عن انتفاء أي طائل في إرسال الكلام عنهم والتزيد فيه خارج ذلك. اهـ.